يخالط قطرات الغيم بخمرة عناقيد النجوم..
جبل صبر.. جنة الحب والمشاقر وموطن العشق والقات والفرسك..!!
من صبر يبدأ العشق تاريخه الحافل بالبذل والتضحيات معلناً انبلاج فجر الغرام العاطر ومرسلاً صفارة انطلاق مشوار الشوق والحنين، فبين المسراخ ومشرعة وحدنان والموادم يتقاطر شهد الأماني وتجدد العهود والمواثيق وبين القاهرة والعروس يختصر الهوى الغالي مسافات التلاقي وحكايات السنين.
معاً أيدينا بأيديكم ومن صبر منطلق رحلة الدهشة نمتطي صهوة الغيم لنخلق في أفق الجمال الآسر ونمسح بمنديل الندى عن وجده الألق الباسم ما علق به من ركام الشجون.. فدعوا كل شيء جانباً وافتحوا الآن خيالكم نافذة على سحر إطلالة مفاتن صبر الشامخ.. صبر العشق والخضرة.. صبر الجمال والقات والمشاقر والبلس..
البداية ذات صباح ومن على مشارف صبر الأشم يترنم شاعر الوطنية والحب والأستاذ عبدالله عبدالوهاب نعمان متلذذاً بطعم فرسك الجبل ونكهة بلسه ومخاطباً الصبايا (بائعات البلس والفرسك) النازلات من الأعالي وعلى رؤوسهن سلال الغلال باتجاه أسواق الحالمة تعز:
طاب البلس طاب واعذارى طاب هيا صبحونا بلس..
والفرسك اخضر وحالي.. فراسكك واصبرنا ما تسبب ضرس
ويعود ليستوقفنا مجدداً أمام لوحة الجمال الرباني الآسر لبنات الجبل وهن يتخطرن باللباس التقليدي المزركش في أنحاء المدينة الحالمة ليروي ظمأنا بندى الأوجان وطل المشاقر الحارسة لبياض الخدود..
ما احلى بنات الجبل حينما يطوفين المدينة بالثياب الدمس..
خدود مثل الورد ضوء الفجر أرواها وأعطاها المشاقر حرس
محوطات الوجوه البيض بالكاذي المسقى في برود الغلس
وفي مسك ختام قصيدة الحب والبلس هذه لا يملك شاعرنا الفضول العاشق لكل صور الحسن في نواحي صبر الأخضر إلا أن يبسط كف التسبيح ويدعو حائمات الغوادي لترتمي في مصب الدراديش بأحضان الجبل المطير..
يسقيك ما احلى ورودك وغرسك واصبر يرحم أبوه من غرس
كم فيك من حسن كم فيك من ألوان فتنة ليت قلبي نفس
لكن قلبي ملانه حب من حينما في الحب قلبي غطس
وفي وقفة أثيرية أخرى يمنحنا الفضول وعلى غير موعد فرصة لقاء بطعم القبل ويجمعنا في غفلة عيون العواذل مع قطافة القات الفاتنة ليصف لنا ثلاثية الحلا المعتق بين المثاني والمباسم وماء الجبل في هذا التصوير الاستثنائي البديع:
طعُمه قُبَل.. واحلا طعمه قُبَل..
قات المثاني على ماء الجبل
قطَّافة القات قاتك كلَّما..
جلس تطرَّى ووردك ما ذبل
قات الجبل في يدك يقطر ندى..
وضحكتك في فمك تقطر عسل
وللحمايم بنوعيها (الغواني والطيور) يرسل الصوفي المولع بالجمال عبدالحميد الشائف دعوة الفرحة بوصول الحبيب ويتماهي في وصف ملامح الحسن المبهرة منتشياً بلذة غصون القات الطرية ومتعة المقيل بجانب الخل المليح:
يا حمام اهجلين الخل عندي مُقيِّل..
قاتنا من صبر سحابة الخير مظلِّل
يا بلابل صبر يا زائرين كل مغرس..
حبكم في الحشا أثَّر بقلبي وأسَّس
يا بنات يا بنات يا فاتنات يا غواني..
يا غصون يا رغاد يا حوريات الجناني
غيد يا حاليات يا قاطفات المثاني..
كم بكم من صفات احتار فيهن بياني
وعلى ذات السياق لا يذهب العم عثمان أبو ماهر بعيداً عمَّا ذهب إليه شاعرنا الشائف المحتفي بوصال الحبيب.. فها هو يخاطب كل ما آنس في محيط البشرى بقدوم الغالي من أعالي صبر:
يا سحاب رشرشي حصن العروس والموادم..
أرقصين يا غصون واتعانقين يا حمائم
زغردين لاجل حبي واملاح الضباب..
اليوم ضيف الفؤاد من رأس حدنان قادم
وهذا العاشق الأبيني عمر عبدالله نسير يشرع جناح الوله ليشد الرحال ويلقي بساط الشجون على طريق نزول صبايا الجبل ليخاطبهن بنبرة العاشق المتيم بإشراقة المباسم وارتعاش النهود..
يا بائعات البلس والقات..
يا حور يا نازلات من العلالي إلى البندر
يا لابسات الذهب زينات..
يا سعد من يشتري من صبايا صبر لخضر
في حسنكن شاضيع..
لو ذا الجمال للبيع.. با نشتري يا ناس
أما إذا أردنا أن نفتش في الدفاتر القديمة عن بعض أسماء من طال بهم مقام العشق في ثنايا جبل صبر فدعونا نقلب الأوراق على عجل لنعود بذاكرة الأشواق إلى صفحة العاشق الراحل علي عبدالله السمة الذي تعلق بحب غانية من غواني صبر فأهدى لها العشرات من الأغاني واستمر يرسل لها مع رفيقاتها النازلات والطالعات “قولين لمحبوبي” موجهاً إليهن هذا الخطاب المشجون والمتضمن وصف من ملكت قلبه المستهام برقة الطبع والطلعة:
يا صبايا صبر.. بينكن لي حبيب..
هو مغير القمر.. غاني اهيف حلا
ظبي ماله مثال.. وعيونه كحال..
له درايا طوال.. حاز كل الخصال
يا صبايا صبر.. يا حمام الجبل..
كم اسرتين بطل.. ما يهاب القتال
وتتعالى أهازيج الرعيان والرعية من صدور الروابي وخدود الجبال ويبقى سحر جبل صبر هو الملهم الشاعر والشادي بكل صور الحسن الناطقة في افق الجمال الرحيب.. يعلو الهتاف فتردد الصدى عوج الشواجب نشوانه بموال البكور..
يسقي صبر يسقي غروسه.. والبلابل تحرسه..
يسقي صبر حيث ما نقيِّل.. ما احسن المقيل بظل
وفي فترة العشية يعزف شفق الغروب لحن الرواح المتهادي على كمنجة الأفق البعيد فتتراقص المحاجين والسبول بإيقاع موال الصراب (هلا واليل دان.. هلا واليل به)..
وامسِجد صبر.. أنا قا امسيت به
لو يقع لي جبا.. والله ما ارد به
رد به الاصبر.. حائط البن به
وليس للأسمراني فحسب بل ولكل من عاش قصة حب في أفياء صبر الأخضر يهدي شاعرنا الدكتور سعيد الشيباني عاصفة الذكريات هذه والتي رغم تقادم الأيام والسنين ستظل تختصر مسافات الزمان والمكان لتعيد كل عاشق إلى أحضان الماضي الجميل وبالتحديد إلى مخادع اللقاء بالحبيب خلف أستار الغيم والغصون في أنحاء صبر العالي:
جبل صبر كم طلعتك بهية..
ذكرتني صالة والجحملية..
صوت المغني في صبر شجاني..
وهيَّج الذكرى للأسمراني
تعز تعز يا موطن الحسانِ..
ما اقدرش انا جنبك أمر ساني..
أخضر مليح بمقلته طواني..
بضحكته بغمزته سباني
بلفتته وفتنته شواني..
هو منيتي يا ناس من زماني
أنا مولع به وبالغواني..
حمر الخدود ورد الربيع قاني
ولا ننسى هذا الاعتراف الموثق في ملف قضية الدكتور سعيد الشيباني المنظورة أمام محكمة الحب والغرام منذ عقود والذي سبق وأن شهد عليه الراحل المرحوم محمد مرشد ناجي:
جبل صبر كم لي عليك قضايا..
قضايا حب تمسي القلوب طوايا
أما من لم تسعفه الفرصة بزيارة جبل صبر والصعود عبر منعطفاته على الواقع فيمكنه مشاهدة هذه الصورة المصغرة للجبل بريشة عاشق تراب صبر المتيم محمد عبدالباري الفتيح وسيدرك عن بعد سر ذلك الشعور الغريب الذي يتملك كل من يسلك ذلك الطريق الأسفلتي الملتوي صعوداً صوب الأعلى وصولاً إلى أعلى قمة العروس:
جبل صبر عالي حتى على الشمس..
والغادية يهمس بأذنها همس
وكما كان منذ الأزل سيظل صبر صفحة ناصعة لسطور حكايات العشق والتلاقي ومسرحاً مفتوحاً لعناق الخضرة والغيوم وشلالاً يروي ظمأ الجوانح والعيون ومهما علا غبار الأيام ستبقى لصبر مساحته الندية في العين والروح والذاكرة.. بلى وما زلت أتذكر وأنا أقف على قمة العروس في مرحى غيمة إلى جوار أستاذي عارف الصغير ذات عشية ماطرة من عشايا الربيع.. كان المطر يهطل ليداعب خضرة الأعشاب والزهور فيخيل لي بأن صوت أيوب ينسكب على السفوح بإيقاع ذلك المشهد ليخالط كل قطرة مطر وكل رفة نسيم.. وأتذكر أنني قلت له لحظتها بأنه ليس في تعز ولا في اليمن بأسرها ما هو أجمل من صبر وأيوب.. فسقاك يا صبر العالي ولله در من قال:
جبل صبر عالي على المدينة..
يا من معه محبوب الله يعينه
جبل صبر عالي وانا طلعته..
طبع الحبيب حالي وانا عرفته
جبل صبر أخضر كلَُه سواقي..
إركنِّي يا المحبوب وانا شلاقي
جبل صبر أخضر ما احلى الروابي..
ما احلى البنات البيض بكل وادي
جبل صبر ملوي ثلاث ليَّات..
ليَّة بنات وليَّتين غصون قات
جبل صبر متهم بقضايا عشق
< هيمان الخالد
كان الشاعر الفضول مفتوناً بجبل صبر حد العشق ورغم صعوبة الطريق آنذاك إلا أنه كان يكرر الصعود إلى الجبل بصورة مستمرة وكما عشق صبر فإنه أيضاً وقع في عشق فرسك (بدور) حيث كانت بدور فتاة جميلة مشهورة ببيع الفرسك والبلس والرمان في دكان صغير عبارة عن صندقة قامت بتركيبها مع زوجها.. وكانت “بدور” وزوجها وافدان من احدى مديريات«العدين».
ولأن الفضول كان لا يطيب له البلس إلا من يد “بدور” فقد خلّدها بغنائيته “طاب البلس” اختزل فيها كل ملامح جمال الطبيعة الأخاذة، ورسم من خلالها لوحة تسر الناظرين وبصوت ملحنها ومغنيها فنان اليمن الكبير أيوب طارش عبسي.. أصبحت جنة من جنان الله وروضة من رياضها تتنقل بين الجبل والمدينة وتجعل المستمع يغرد في اعشاشها ويهيم بين خمائلها.
وفي رائعة أخرى اعتبر الشاعر سعيد الشيباني جبل صبر كائن عاقل متهم بقضايا عشق كثيرة في قصيدة غنائية ذائعة الصيت صدح بها الراحل محمد مرشد ناجي مطرباً وممتعاً الاسماع والقلوب ونصها التالي:
صنعا الكروم يا موطن الثلايا
يا قلب أيلول محتوى وغايه
عدن شطوط البحر نهود صبايا
سمرة تمور أما العيون آيه
“ذمار” ، “رداع” يا روح من “حدايا”
“مأرب” و”حوث” و”حضرموت” مزايا
“بيضاء” شروق “صعده” جبال علايا
“إب” اخضرار تسخر من البلايا
هذي “التهايم” للسلام هدايا
وذي “تعز” دائي بها دوايا
“جبل صبر” كم لي عليك قضايا
قضايا حب تمسي القلوب طوايا
شعبي قرى شعبي مدى مدايا
وزعت لك قلبي سطور وآيه
الوحده يا خلي للشعب رايه
فجر الشعوب دايم بلا نهايه